بعدما كُسرت شوكة
جناحين من الأحزاب : اليهود ، ومشركي مكة من قبل المسلمين ، بقي جناح ثالث
: وهم الأعراب القساة الضاربين في فيافي نجد ، والذين ما زالوا يقومون
بأعمال النهب والسلب بين وقت وآخر .
فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم
تأديبهم ، وإخماد نار شرهم ، ولما كانوا بدواً لا بلدة أو مدينة تجمعهم ،
بات لا يجدي معهم سوى حملات التأديب والتخويف ، فكانت غزوة ذات الرقاع .
وجرت أحداث هذه الغزوة في السنة السابعة من الهجرة ، بعد خيبر، كما رجحه ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد .
وبدأت
حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم باجتماع قبائل : أنمار أو بني ثعلبة ،
وبني محارب من غطفان ، فأسرع بالخروج إليهم بأربعمائة أو سبعمائة من
الصحابة ، واستعمل على المدينة أبا ذر ، وقيل عثمان بن عفان ، وسار
متوغلاً في بلادهم حتى وصل إلى موضع يقال له نخل ، ولقي جمعاً من غطفان ،
فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال ، إلا أنه صلى بالصحابة صلاة الخوف ، فعن
جابر قال : (خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذات الرقاع من نخل ، فلقي
جمعاً من غطفان ، فلم يكن قتال ، وأخاف الناس بعضهم بعضاً ، فصلى النبي
صلى الله عليه وسلم ركعتي الخوف )رواه البخاري .
وكان لكل ستة بعير
يتعاقبون على ركوبه ، حتى تمزقت خفافهم ، ولفّوا على أرجلهم الخرق ؛ ولذلك
سميت الغزوة بذات الرقاع ، ففي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال :
(خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ، ونحن ستة نفر بيننا بعير
نعتقبه ، فنقبت أقدامنا ، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري ، وكنا نلف على
أرجلنا الخرق ، فسُمِّيت غزوة ذات الرقاع ؛ لما كنا نعصب من الخرق على
أرجلنا) .
ومما صاحب هذه الغزوة قصة الأعرابي ، ففي البخاري ، عن
جابر رضي الله عنه قال : (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع ،
فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل
من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة ، فاخترطه فقال :
تخافني ، قال : لا قال فمن يمنعك مني؟ قال: الله فتهدده أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم ، وأقيمت الصلاة ، فصلى بطائفة ركعتين ، ثم تأخروا وصلى
بالطائفة الأخرى ركعتين ، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ، وللقوم
ركعتان ).
وكان لهذه الغزوة أثر في قذف الرعب في قلوب الأعراب
القساة ، فلم تجترئ القبائل من غطفان أن ترفع رأسها بعدها ، بل استكانت
حتى استسلمت ، وأسلمت ، حتى شارك بعضها في فتح مكة وغزوة حنين .
وبهذا
تم كسر أجنحة الأحزاب الثلاثة ، وساد الأمن والسلام ربوع المنطقة ، وبدأ
التمهيد لفتوح البلدان والممالك الكبيرة ، لتبليغ الإسلام ونشر الخير